عامان على المأساة: صرخات السودان المنسي لا يسمعها العالم

قضايا إنسانية

عامان على المأساة: صرخات السودان المنسي لا يسمعها العالم

“ليس لدينا ما نعود إليه” وقد يقول البعض “من نعود إليه” جملة تختصر معاناة شعب بأكمله، بعد سنتين من اندلاع النزاع في السودان في 15 نيسان/أبريل 2023، وما استتبع ذلك من مآس إنسانية على مستوى البلد. هذا العنوان حمله تقرير حديث للجنة الدولية أظهر أن مستقبل جيل كامل دمر وتحول الضحايا إلى أرقام تضاف لآلاف آخرين سقطوا منذ بداية النزاع وملايين شردوا، فيما العالم اختار أن يغمض عينيه عن معاناة السودانيين منشغلا بأزماته السياسية والاقتصادية وبنزاعات أخرى ممتدة، ليختفي السودان من عناوين الأخبار الرئيسة، ويعود ليظهر بخفر كلما حدثت مقتلة جديدة.

أزمة مهملة

في غضون عامين، تحولت حياة الملايين من السودانيين إلى رحلة معاناة يومية. وبحسب تقرير اللجنة الدولية الذي أصدرته بمناسبة مرور سنتين على اندلاع النزاع في السودان فإن “كل 30 ثانية، يُجبر سوداني على ترك منزله منذ نيسان/أبريل 2023”. عائلات بأكملها اضطرت لذلك تاركة متاعها وذكرياتها خلفها، باحثة عن ملاذ آمن في البلدان المجاورة. أكثر من ثلاثة ملايين إنسان عبروا الحدود حاملين معهم آمالهم وما تبقى من عائلة ومتاع بسيط، بينما يواجه ملايين آخرون في الداخل تحدي النزوح القسري.

آلاف القتلى والجرحى و12 مليون نازح ليست مجرد أرقام كما ارتضى العالم أن يصورها مهملا أن خلف كل رقم منها تكمن قصة إنسانية فريدة: أم تحمل طفلها وتبحث عن مأوى، أب يحاول إطعام عائلته في مخيم للنازحين، طفل فقد فرصته في التعليم، ومسن ترك خلفه عمرًا كامل من الذكريات. كل ذلك “ينبع في المقام الأول من عدم احترام قوانين الحرب” بحسب رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش، التي حذرت من أن آثار هذه المأساة قد تمتد لأجيال قادمة ما لم نتحرك الآن.

فبالرغم من كل التعهدات التي قطعتها الأطراف المتحاربة في السودان باحترام المبادئ الإنسانية وتسهيل وصول المساعدات بحسب تقرير اللجنة الدولية، إلا أن تقارير مؤلمة تتوالى يوميا عن انتهاكات تمس كرامة الإنسان وسلامته. فقد سجلت اللجنة الدولية 7700 طلب بحث عن مفقودين منذ بداية الأزمة وحتى كانون الثاني/ ديسمبر 2024. ولا تزال المستشفيات والمرافق المدنية تتعرض للهجمات، تاركة المدنيين – وخاصة النساء والأطفال – في حالة ضعف شديد.

“لا ينبغي أبدًا اعتبار الفظائع التي يتعرض لها المدنيون في السودان نتيجة حتمية للحرب. فالتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار من شأنه أن يمنح الناس فرصة لالتقاط الأنفاس وفسحة من الراحة هم بأمسّ الحاجة إليها، لكن احترام قوانين الحرب يظل واجبًا، حتى لو لم يتوقف القتال. لقد كان بالإمكان تفادي قدر كبير من المعاناة التي شهدناها خلال العامين الماضيين لو كان هناك التزام بقواعد الحرب.”

ميريانا سبولياريتش، رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر

صرخات من داخل المستشفيات المنهارة

“لقد أدى تدفق عدد هائل من المرضى إلى نقص في الأسرّة وفُرش النوم والمساحات بالأجنحة. وفي بعض الأحيان، لا يكون لدينا خيار سوى أن نجعل المرضى ينامون تحت الأشجار عندما تكون جميع الأسرّة المتاحة مشغولة،” يروي الدكتور عبد العزيز آسو حال المستشفى السعودي في الفاشر، مضيفا “ومع ذلك، نحاول جاهدين تقديم الرعاية إلى كل مريض”. كان ذلك قبل أن يتعرض المستشفى للهجوم في كانون الثاني/يناير 2025 ما أدى إلى مقتل العشرات وتضرر مبانيه، بالرغم من أن استهداف المستشفيات أو المراكز الصحية أو مرافق الرعاية الصحية يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وقصة محمد خليل تمثل واحدة من آلاف القصص المماثلة في بلد تحولت فيه المستشفيات من ملاذ آمن إلى هدف للهجمات. “كنت جالساً أمام الباب (المستشفى) على كرسي وأصابتني رصاصة في ظهري جهة اليسار، فسقطت على وجهي” يروي محمد الآتي من كسال. وبالرغم من أن محمد تلقى العلاج اللازم الذي أنقذ حياته، إلا أن الرصاصة لا تزال مستقرة في جسده إذ لم يكن لديه الموارد اللازمة لإجراء الجراحة لإزالتها. “أشعر بها الآن كلما ضغطت على تلك المنطقة” يقول محمد.

في بلد تعطلت فيه 70 إلى 80 في المئة من المرافق الصحية في المناطق المتضررة وحرم ثلثا المدنيين من الرعاية الطبية.، تتجلى المأساة في تفاصيل يومية مؤلمة: أمهات يلدن دون مساعدة طبية، وأطفال محرومون من التطعيمات الأساسية، ومرضى يصارعون الموت دون علاج.

وليست المرافق الصحية وحدها ما تضرر في السودان، فالمحطات التي تمد المواطنين بالكهرباء والماء النظيف، تتعرض هي أيضا للتدمير الواحدة تلو الأخرى، تاركة الملايين في ظلام دامس وعطش مستمر. ويشير تقرير اللجنة الدولية إلى أنه في بعض المناطق، تجد العائلات نفسها مجبرة على شرب المياه الملوثة، بعدما انقطعت عنهم إمدادات المياه النظيفة لأسابيع. هذا الوضع المأساوي أدى إلى انتشار أمراض خطيرة مثل الكوليرا، حاصدة أرواح المئات، خاصة من الأطفال وكبار السن.

وقد وجد السودانيون أنفسهم في صراع يومي من أجل البقاء. فالأم التي تبحث عن قطرة ماء نظيفة لطفلها المريض، والمريض الذي يحتاج إلى غسيل كلى في مستشفى بلا كهرباء، والعائلات التي فقدت التواصل مع أحبائها بسبب انقطاع الاتصالات – كلها قصص إنسانية تتكرر كل يوم.

البحث عن الأحباء المفقودين

مع دخول النزاع عامه الثاني، تمزقت شبكة العائلات السودانية، وتشتت شملها بين نزوح داخلي ولجوء إلى الدول المجاورة. وفي كل يوم، تروي لنا الوجوه المتعبة قصصاً موجعة عن أحباء اختفوا في غمرة العنف. يحمل عثمان موسى حسن صورة ابنه بيد نحيلة سمراء وترتجف شفتاه تحت لحيته البيضاء وهو يتحدث عنه، وهو الذي فقد الاتصال معه منذ سنة ونصف.”إنني أراه في كل أحلامي. وأقابله من وقت لآخر في تلك الأحلام. عسى الله أن يجمع شملنا،” يقول عثمان وهو أحد آلاف السودانيين الذين يبحثون اليوم عن ذويهم المفقودين. “فقدان الابن ليس أمرًا سهلاً… خاصةً لوالدته. وعندما يعود إن شاء الله، سنُحضر لعُرسه وسيأتي الناس ليشاركوه فرحته. ستجتمع العائلة بأكملها، وسنعد وليمة ونمارس كل تقاليدنا تلك.” هذا الأمل يتردد صداه في أكثر من 7,700 طلب بحث عن مفقودين تلقتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، حتى نهاية 2024، بحسب التقرير الأخير، في زيادة بلغت 66% عن العام السابق. وبالرغم ضخامة هذا الرقم، إلا أنه لا يمثل سوى جزء يسير من حجم المأساة الحقيقي.

عثمان ينتظر عودة ولده/ اللجنة الدولية

وامتدت هذه المأساة الإنسانية عبر الحدود إلى دول مجاورة، من مصر إلى تشاد، ومن جنوب السودان إلى إثيوبيا. عائلات سودانية تشتت أفرادها بين مخيمات اللجوء، كل منهم يحمل في قلبه صورة لعزيز مفقود، وأملاً في لم الشمل يوماً ما. ويحمل التقرير قصصا عدة عن نازحين داخل البلد أو لاجئين في دول مجاورة. ففي مدينة أدري التشادية الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها 12,000 نسمة، يعيش اليوم 150,000 لاجئ، 90 في المئة منهم من النساء والأطفال. وفي جنوب السودان، تستقبل بلدة بورو، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5,000 نسمة، آلاف اللاجئين في ظروف صحية متدهورة. تقول سمية، إحدى النازحات في المخيم: ” كنا نعيش حياةً كريمة ونجد ما يكفينا من الطعام في دارفور. أما هنا في المخيم، فالأمر مختلف تمامًا. وفي مرحلةٍ ما، لم أعد قادرة على إرضاع طفلي لأنني لم أكن أتناول ما يكفي من الطعام. لا أعلم ماذا أريد أن أفعل. الحياة في المخيم قاسية، لكن ليس لدينا ما نعود إليه. احترق بيتي، وفقدت كل ما كنت أملكه. حتى لو استطعت العودة، لا بد أن أبدأ حياتي من الصفر. وليس هذا بالأمر السهل.”

عنف جنسي يلاحق النساء

في خضم النزاع المستمر، أبرز تقرير اللجنة الدولية تعرض النساء والفتيات لمعاناة مضاعفة، وصامتة في أغلب الأحيان، تترك جروحاً عميقة في النفوس والأرواح نتيجة العنف الجنسي الذي انتشر في السودان. وتجد الناجيات أنفسهن محرومات حتى من حق العلاج والرعاية الطبية الأساسية، مع خروج معظم المستشفيات عن الخدمة. كثيرات يحملن آلامهن في صمت، خوفاً من وصمة المجتمع، أو تهديد أشد قسوة قد يصل إلى حد تهديد حياتهن. وينقل التقرير عن مديرة العمليات المختصة بالعنف الجنسي باللجنة الدولية زينب عبد الخالق زاهر “حكت لنا أكثر من 70 ناجية ما مررن به، وكثيرات منهن، وخاصة اللاتي حملن، كن مترددات في طلب الرعاية الطبية المبكرة بسبب المخاوف من الوصم. ومع تقدم مراحل الحمل، وجدن أنفسهن في كثير من الأحيان بلا دعم، وكن، في بعض الأحيان، بعيدات عن أفراد عائلاتهن، الذين على الرغم من مشاهدتهم للأحداث المؤلمة، واجهوا صعوبة بالغة في استيعاب ما حدث”.

وفي المنفى، تواجه الناجيات تحدياً آخر: نقص الخدمات الطبية والنفسية الضرورية لشفائهن. ففي مدينة الرنك بجنوب السودان وحدها، أدى تدفق أكثر من 100 ألف لاجئ إلى استنزاف الخدمات القليلة المتاحة. كما أن هذه الجروح النفسية والجسدية قد تستغرق سنوات للشفاء، لكن كل خطوة نحو دعم الناجيات، وكل يد تمتد بالمساعدة، تمثل بصيص أمل في نهاية هذا النفق المظلم. وهناك فرق طبية ومجتمعية تعمل بصمت لمد يد العون، متحدية الوصم المجتمعي والعقبات، منها اللجنة الدولية، بالتعاون مع جمعية الصليب الأحمر في جنوب السودان، التي تدرب متطوعين وعاملين صحيين لتقديم هذا الدعم الحساس والضروري.

جيل كامل يفقد مستقبله

في خضم هذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة، يبرز واقع مؤلم آخر: جيل كامل من الأطفال السودانيين يفقد حقه في التعليم والطفولة الطبيعية. فمع نزوح أكثر من 12 مليون شخص، أصبح ملايين الأطفال خارج المدرسة، محرومين من أبسط حقوقهم في التعليم والتطور. “عندما نتحدث عن المرافق الصحية المدمرة والبنية التحتية المنهارة، علينا ألا ننسى المدارس المغلقة والفصول الدراسية الفارغة،” تقول زينب عبد الخالق زاهر، وتضيف “هؤلاء الأطفال لا يفقدون فقط تعليمهم، بل يفقدون أيضاً فرصتهم في بناء مستقبل أفضل.”

جيل كامل يكبر خارج المدرسة/ اللجنة الدولية

تضاف إلى ذلك الصدمات النفسية التي يتعرض لها الأطفال في مناطق النزاع والتي تترك آثاراً عميقة قد تستمر معهم مدى الحياة. فمشاهد العنف، وفقدان الأحباء، والنزوح القسري، كلها عوامل تؤثر على نموهم النفسي والعاطفي. في مخيمات اللاجئين، تزداد المأساة عمقاً. ينقل التقرير عن سمية، وهي النازحة في مخيم أدري: “أطفالي لا يعرفون معنى الاستقرار. كانوا في المدرسة، والآن هم هنا في المخيم بلا تعليم، بلا مستقبل واضح. حتى ألعابهم تغيرت فأصبحوا يلعبون ألعاباً تحاكي مشاهد الحرب التي شهدوها.”

وإذ تحاول المنظمات الإنسانية إنشاء مدارس مؤقتة، لكن نقص المعلمين المؤهلين، غياب المواد التعليمية الأساسية، وصعوبة توفير بيئة تعليمية مناسبة في ظروف النزوح، كلها عوامل تعيق العملية التعليمية. “نحاول توفير بعض الأنشطة التعليمية والترفيهية للأطفال، لكن هذا لا يمكن أن يحل محل التعليم النظامي،” يقول أحد العاملين في المجال الإنساني. مع تدهور الأوضاع الاقتصادية للعائلات النازحة، يضطر العديد من الأطفال للعمل لمساعدة أسرهم. هذا الواقع المرير يحرمهم ليس فقط من التعليم، بل من طفولتهم أيضاً، ويعرضهم لمخاطر الاستغلال والانتهاكات.

يحذر خبراء التعليم من أن الآثار طويلة المدى لهذا الانقطاع التعليمي ستمتد لعقود. فجيل كامل من الأطفال السودانيين يفقد سنوات حاسمة من تعليمه، مما سيؤثر على قدرة البلاد على التعافي والتنمية في المستقبل.

اليوم، وبعد عامين من النزاع، لم تعد أزمة السودان مجرد أزمة منسية، بل تحولت إلى أزمة مهملة تهدد بزعزعة استقرار منطقة بأكملها. فهل سيستمر العالم في غض الطرف عن معاناة ملايين السودانيين، أم أن الوقت قد حان أخيراً للتحرك الجاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح وكرامة إنسانية؟

يمكن تحميل التقرير كاملا باللغة العربية من هذا الرابط

اطلع غيرك على هذا المقال

تعليقات

لا توجد تعليقات الآن.

اكتب تعليقا

OSZAR »